فصل: 1- طبيعة القرآن المكي وحله لمشكلات الإنسان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.أغراض هذه السورة:

ابتدأت بإشعار الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله لأنه مبدع العوالم جواهر وأعراضا فعلم أنه المتفرد بالإلهية.
وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفرد بخلق العالم جواهره وأعراضه، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه، ولا تملك آلهتهم تصرفا ولا علما.
وتنزيه الله عن الولد والصاحبة.
قال أبو إسحاق الإسفرائيني: في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد.
وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق، وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى، وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم.
ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم، ثم عند البعث.
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم من طلب إظهار الخوارق تهكما.
وإبطال اعتقادهم أن الله لقنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان حقيقة مشيئة الله.
وإثبات صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق.
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث، وتحقيق أنه واقع، وأنهم يشهدون بعده العذاب، وتتبرأ منهم آلهتهم التي عبدوها، وسيندمون على ذلك، كما أنها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا، فإنهم لا يدعون إلا الله عند النوائب.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه، وأمره بالإعراض عنهم.
وبيان حكمة إرسال الله الرسل، وأنها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلبون علمه من المغيبات.
وأن تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله.
وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال.
وبيان أن التقوى الحق ليست مجرد حرمان النفس من الطيبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية.
وضرب المثل للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدم منهم ومن تأخر.
والمنة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة.
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات.
وتخللت ذلك قوارع للمشركين، وتنويه بالمؤمنين، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله، وذكر مفاتح الغيب.
قال فخر الدين: قال الأصوليون أي علماء أصول الدين: السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة.
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]، وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: «إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام[140]: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}».
ووردت في فضل سورة الأنعام وفضل آيات منها روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأسماء بنت يزيد. اهـ.

.قال سيد قطب:

.مقدمة سورة الأنعام:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.1- طبيعة القرآن المكي وحله لمشكلات الإنسان:

هذه السورة مكية.. من القرآن المكي.. القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما كاملة، يحدثه فيها عن قضية واحدة. قضية واحدة.
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها؛ وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.

.2- حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الإجتماعية أو الأخلاقية:

وأصحاب الدعوة إلى دين الله، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة؛ خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة.. ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما.. لتقرير هذه العقيدة؛ ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها..
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة. وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه- في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب- هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: إله ومعنى: لا إله إلا الله. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا.. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله سبحانه بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى الله.. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة.. السلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان.. كانوا يعلمون أن: لا إله إلا الله ثورة على السلطان الأرضي، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب؛ وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله.. ولم يكن يغيب عن العرب- وهم يعرفون لغتهم جيدا، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة: لا إله إلا الله- ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم.. ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام..
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب؛ إنما هي في يد غيرهم من الأجناس!
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس.. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك!
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين؛ الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاما؛ والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا.. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة؛ الرومان في الشمال والفرس في الجنوب؛ وإعلاء راية العربية والعروبة؛ وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة..
ولو دعا يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة- على الأرجح- بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة!
وربما قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة؛ وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة؛ وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه.. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه!
ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء!
لماذا؟ إن الله سبحانه لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه.. إنما هو سبحانه يعلم أن ليس هذا هو الطريق.. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى يد طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاعوت!.. إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية: لا إله إلا الله. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاغوت! إن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية: لا إله إلا الله.. لا اله الا الله كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله.. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وهذا هو الطريق..
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة.. قلة قليلة تملك المال والتجارة؛ وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة؛ وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا!
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية؛ وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف؛ وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء!
ولو دعا يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه: لا إله إلا الله التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة؛ وتوليه قيادها؛ فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها.. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه!
ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه..
لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل؛ يرد الأمر كله لله؛ ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع؛ ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله؛ ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع، ولا تمتلئ قلوب بالحقد؛ ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا؛ وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح؛ كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير: لا إله إلا الله.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبى سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ** يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم

ويعبر عنه القول المتعارف: «انصر أخاك ظالما أو مظلومًا».
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته.. كالذي يقوله طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى ** وجدك لم أحفل متى قام عودي

فمنهن سبقي العاذلات بشربة ** كميت متى ما تعل بالماء تزبد!

... إلخ.
وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا التجمع.. كالذي روته عائشة رضي الله عنها: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته، فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه. ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرآة، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها- وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن- فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك». [أخرجه البخاري في كتاب النكاح].